فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}، أَيْ: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى وَمَيْلَ النَّفْسِ إِلَى أَحَدٍ مِمَّنْ كُلِّفْتُمُ الْعَدْلَ فِيهِمْ، أَوِ الشَّهَادَةَ لَهُمْ أَوْ عَلَيْهِمْ، كَرَاهَةَ أَنْ تَعْدِلُوا، بَلْ آثِرُوا الْعَدْلَ عَلَى الْهَوَى، فَبِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ الْأَمْرُ فِي الْوَرَى، أَوْ لَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِئَلَّا تَعْدِلُوا عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، فَالْهَوَى مَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، كُتِبَتْ: تَلْوُوا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ لِتَحْتَمِلَ الْقِرَاءَتَيْنِ الْمُتَوَاتِرَتَيْنِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْكُوفِيِّينَ تَلُوا، بِضَمِّ اللَّامِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ مِنَ الْوِلَايَةِ، وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ الْوَاوِ مِنَ اللَّيِّ وَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ: وَإِنْ تَلُوا أَمْرَ الشَّهَادَةِ وَتُؤَدُّوهَا أَوْ تُعْرِضُوا عَنْ تَأْدِيَتِهَا وَتَكْتُمُوهَا، فَإِنَّ اللهَ كَانَ خَبِيرًا بِعَمَلِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ قَصْدُكُمْ وَنِيَّتُكُمْ فِيهِ، وَعَلَى الثَّانِي: وَإِنْ تَلْوُوا أَلْسِنَتَكُمْ بِالشَّهَادَةِ وَتُحَرِّفُوهَا، أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا فَلَا تُؤَدُّوهَا، فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعَمَلِكُمْ هَذَا خَبِيرًا فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَّرَهُمْ هُنَا بِكَوْنِهِ خَبِيرًا وَلَمْ يَقُلْ عَلِيمًا؛ لِأَنَّ الْخِبْرَةَ هِيَ الْعِلْمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ وَخَفَايَاهَا، فَهِيَ الَّتِي تُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ الَّذِي تَخْتَلِفُ فِيهِ النِّيَّاتُ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الْغِشُّ وَالِاحْتِيَالُ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ لِيَغُشَّ نَفْسَهُ وَيَلْتَمِسَ لَهَا الْعُذْرَ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَوِ التَّحْرِيفِ فِيهَا، فَهَلْ يَتَدَبَّرُ الْمُسْلِمُونَ الْآيَةَ كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ فَيُقِيمُوا الْعَدْلَ وَالشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ، أَمْ يَعْمَلُونَ بِرَأْيِ أَهْلِ الْحِيَلِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللهَ كَلَّفَهُمُ اتِّبَاعَهُمْ دُونَ اتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِ؟!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، رَوَى الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَسَدٍ وَأُسَيْدٍ ابْنَيْ كَعْبٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ قَيْسٍ وَسَلَامِ بْنِ أُخْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلَمَةَ بْنِ أَخِيهِ وَيَامِينَ بْنِ يَامِينَ إِذْ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نُؤْمِنُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ، وَمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَعُزَيْرٍ وَنَكْفُرُ بِمَا سِوَاهُ»، أَيْ: سِوَى مَا ذَكَرَ مِنَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، فَقَالَ: بَلْ آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَكِتَابِهِ الْقُرْآنِ وَبِكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَهُ، فَقَالُوا: لَا نَفْعَلُ، فَنَزَلَتْ قَالَ: فَآمَنُوا كُلُّهُمْ، وَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ.
وَرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً أَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ الْأَعْظَمِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْقُرْآنِ الَّذِي نَزَّلَهُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ بِجِنْسِ الْكُتُبِ الَّتِي نَزَّلَهَا عَلَى رُسُلِهِ مِنْ قَبْلِ بَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ قَبْلَهُ رُسُلًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ عِبَادَهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي سُدًى، مَحْرُومِينَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفُوا أَعْيَانَ تِلْكَ الْكُتُبِ وَلَا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ مِنْهَا صَحِيحًا غَيْرَ مُحَرَّفٍ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ الْأَمْرَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ الْخَاتَمِ وَالْكِتَابِ الْآخَرِ، وَبَيْنَ مَا قَبْلُهُ كَمَا قُلْنَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ آمِنُوا، بِمَعْنَى اثْبُتُوا وَدَاوِمُوا عَلَى الْإِيمَانِ بِذَلِكَ كَمَا قَالُوا، فَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْأَمْرِ بِالْمُوَاظَبَةِ وَالْمُدَاوَمَةِ، سَوَاءٌ أَصَحَّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَمْ لَمْ يَصِحَّ.
وَلَمَّا أَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ تَوَعَّدَ عَلَى الْكُفْرِ بِأَيِّ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، فَالْإِيمَانُ بِاللهِ هُوَ الرَّكْنُ الْأَوَّلُ، وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْوَحْيَ إِلَى الرُّسُلِ هُوَ الرَّكْنُ الثَّانِي، وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الْكُتُبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ عَلَى الرُّسُلِ هُوَ الرَّكْنُ الثَّالِثُ وَالْإِيمَانُ بِجِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ بَلَّغَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ تِلْكَ الْكُتُبَ فَبَلَّغُوهَا النَّاسَ هُوَ الرَّكْنُ الرَّابِعُ، وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يُجْزَى فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ عَلَى عَمَلِهِمْ بِتِلْكَ الْكُتُبِ مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا ذَكَرَ كُلٌّ بِحَسَبِ كِتَابِهِ إِلَّا أَنْ يُنْسَخَ بِمَا بَعْدَهُ هُوَ الرُّكْنُ الْخَامِسُ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ كُتُبِ اللهِ وَرُسُلِهِ فَآمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يُعْتَدُّ بِإِيمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى فِيهِ أَوْ لِلتَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْجَهْلِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ وَأُمَّتِهِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ بِقَوْلِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [2: 285]، وَلَوْلَا التَّقْلِيدُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ وَعَمًى، أَوِ التَّعَصُّبُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى، لَمَا كَانَ يُعْقَلُ أَنْ يَفْهَمَ أَحَدٌ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَيُؤْمِنُ بِمُوسَى وَعِيسَى عَنْ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، فَإِنَّ سِرَّ الرِّسَالَةِ هُوَ الْهِدَايَةُ، وَلَمْ يَكُنْ مُوسَى وَلَا عِيسَى أَهْدَى مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ أَجْمَعِينَ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ أَوْ بِمَلَائِكَتِهِ أَوْ بِبَعْضِ كُتُبِهِ أَوْ رُسُلِهِ أَوِ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ صِرَاطِ الْحَقِّ الصَّحِيحِ الَّذِي يُنَجِّي صَاحِبَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَيُمَتِّعُهُ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَفَرَ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَرْكَانِ بِجُحُودِ أَصْلِهِ وَإِنْكَارِهِ أَلْبَتَّةَ كَانَتْ حَيَاتُهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَيَوَانِيَّةً مَحْضَةً، لَا يُزَكِّي نَفْسَهُ وَلَا يُعِدُّ رُوحَهُ لِلْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَإِنْ كَفَرَ بِبَعْضِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ كَانَ كُفْرُهُ بِهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِيمَانًا صَحِيحًا مَبْنِيًّا عَلَى فَهْمِ مَعْنَاهَا وَالْبَصِيرَةِ بِحِكْمَتِهَا كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ آنِفًا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الضَّلَالِ الْبَعِيدِ عَنْ طَرِيقِ الْهِدَايَةِ، وَمَحَجَّةِ السَّلَامَةِ وَإِنَّمَا أَبْعَدَهُ عَنْهَا جَهْلُ صَاحِبِهِ لِوُجُودِهَا، وَمَنْ جَهَلَ وُجُودَ الشَّيْءِ لَا يَطْلُبُهُ بِالْبَحْثِ عَنْ بَيِّنَاتِهِ، وَطَلَبِ أَعْلَامِهِ وَآيَاتِهِ، وَأَمَّا مَنْ ضَلَّ عَنِ الشَّيْءِ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ، فَإِنَّهُ يَبْحَثُ عَنْهُ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ضَلَالُهُ قَرِيبًا، وَوَصْفُ الضَّلَالِ بِالْبَعِيدِ مِنْ أَبْلَغِ الْوَصْفَ وَأَعْلَاهُ، وَقَدْ وَحَّدَ لَفْظَ الْكِتَابِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لِيُنَاسِبَ لَفْظَ الرُّسُلِ الْمُفْرَدَ، وَجَمَعَهُ فِي آخِرِهَا لِيُنَاسِبَ جَمْعَ الرُّسُلِ.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا بَيَّنَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ حَالَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ الضَّلَالِ الْبَعِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهُنَّ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ نِفَاقًا أَوْ تَقْلِيدًا، وَكَانَ الْكُفْرُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَدَعْ فِيهَا اسْتِعْدَادًا لِفَهْمِ الْإِيمَانِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْصِمْهُمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ وَلَا ذَاقُوا حَلَاوَتَهُ، ثُمَّ وَعِيدُ الْمُنَافِقِينَ كَافَّةً وَبَيَانُ مُوَالَاتِهِمُ لِلْكَافِرِينَ وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاسُبِ الَّذِي يَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْوَعِيدِ وَتَحْذِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا، ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ مِنْ ذَبْذَبَتِهِمْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ أَنَّهُ قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِفَهْمِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيَّتِهِ وَمَزَايَاهُ، فَهُمْ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِهِ لَا يُرْجَى لَهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا إِلَى سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِهِ، وَلَا أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا دَنَّسَ أَرْوَاحَهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْآيَةَ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَمْثَالِهِمْ؛ لِأَنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ لَمْ يَكُنْ لِيَحْرِمَ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ الْمَغْفِرَةَ وَالْهِدَايَةَ بِمَحْضِ الْخَلْقِ وَالْمَشِيئَةِ، وَإِنَّمَا مَشِيئَتُهُ مُقْتَرِنَةٌ بِحِكْمَتِهِ، وَقَدْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ كَسْبُ الْبَشَرِ لِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مُؤَثِّرًا فِي نُفُوسِهِمْ، فَمَنْ طَالَ عَلَيْهِ أَمَدُ التَّقْلِيدِ، حُجِبَ عَقْلُهُ عَنْ نُورِ الدَّلِيلِ، حَتَّى لَا يَجِدَ إِلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَمَنْ طَالَ عَلَيْهِ عَهْدُ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، حُجِبَ عَنْ أَسْبَابِ الْغُفْرَانِ، وَهِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [20: 82]، وَقَوْلُهُ حِكَايَةً لِدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينِ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقَهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [40: 7]، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ عِبَارَةٌ عَنْ مَحْوِ أَثَرِ الذَّنْبِ مِنَ النَّفْسِ بِتَأْثِيرِ التَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُضَادُّ أَثَرُهُ أَثَرَ ذَلِكَ الذَّنْبِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [11: 114]، وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا آمَنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ بَلْ يُقْبَلُ قَطْعًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ آمَنَ الْيَهُودُ بِالتَّوْرَاةِ ثُمَّ كَفَرُوا وَآمَنَ النَّصَارَى بِالْإِنْجِيلِ ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَوَّلُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ كُفْرَ الْيَهُودِ الْأَوَّلَ كَانَ بِاتِّخَاذِهِمُ الْعَجْلَ وَعِبَادَتِهِ، وَالثَّانِي كُفْرُهُمْ بِالْمَسِيحِ، وَالثَّالِثَ الَّذِي ازْدَادُوا بِهِ كُفْرًا هُوَ كُفْرُهُمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ قَدْ آمَنُوا، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَهُوَ يَظْهَرُ فِيمَنْ جَهَرُوا بِالْكُفْرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا يَظْهَرُ فِيمَنْ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ تَقْلِيدًا لِبَعْضِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى الْكُفْرِ لِمِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَكَذَا فَعَلُوا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ الْكُفْرَ أَلْصَقُ بِنُفُوسِهِمْ لِطُولِ أُنْسِهِمْ بِهِ وَانْهِمَاكِهِمْ فِيهِ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (138):

قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت جميع صور الآية منطبقة على النفاق، بعضها حقيقة وبعضها مجازًا، قال جوابًا لمن كأنه سأل عن جزائهم متهكمًا بهم: {بشر المنافقين} فأظهر موضع الإضمار تعميمًا وتعليقًا للحكم بالوصف {بأن لهم عذابًا أليمًا}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن من حمل الآية المتقدمة على المنافقين قال إنه تعالى بيّن أنه لا يغفر لهم كفرهم ولا يهديهم إلى الجنة، ثم قال: وكما لا يوصلهم إلى دار الثواب فإنه مع ذلك يوصلهم إلى أعظم أنواع العقاب، وهو المراد من قوله: {بَشّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وقوله: {بُشّرَ} تهكم بهم، والعرب تقول: تحيتك الضرب، وعتابك السيف. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}
استئناف ابتدائي ناشِئ عن وصف الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا، فإنّ أولئك كانوا مظهرين الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان ثمّة طائفة تبطن الكفر وهم أهل النفاق، ولمّا كان التظاهر بالإيمان ثم تعقيبه بالكفر ضربًا من التهكّم بالإسلام وأهله، جيء في جزاء عملهم بوعيد مناسب لتهكّمهم بالمسلمين، فجاء به على طريقة التهكّم إذ قال: {بشر المنافقين}، فإنّ البشارة هي الخبر بما يَفرحَ المخبَر به، وليس العذاب كذلك، وللعرب في التهكّم أساليب كقول شَقِيق ابن سُليك الأسدي:
أتاني من أبي أنَسسٍ وعيدٌ ** فَسُلىّ لِغَيظَةِ الضّحّاككِ جِسمِي

وقول النابغة:
فإنّك سوف تَحْلُم أو تَناهَى ** إذا ما شِبْت أو شَاب الغراب

وقول ابن زَيَّابة:
نُبِّئْتُ عَمْرًا غارزًا رأسَه ** في سِنَةٍ يُوعدِ أخْوَالَهُ

وتلكَ منه غير مأمُونَةٍ ** أنْ يَفعل الشيءَ إذَا قالَهُ

ومجيء صفتهم بطريقة الموصول لإفادة تعليل استحقاقهم العذاب الأليم، أي لأنّهم اتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي اتّخذوهم أولياء لأجل مضادّة المؤمنين.
والمراد بالكافرين مشركو مكة، أو أحْبار اليهود، لأنّه لم يْبق بالمدينة مشركون صُرحاءَ في وقت نزول هذه السورة، فليس إلاّ منافقون ويهود.
وجملة {أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة لله} استئنافٌ بياني باعتبار المعطوف وهو {فإنّ العزّة لله} وقوله: {أيَبْتَغَون} هو منشأ الاستئناف، وفي ذلك إيماء إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة، لأنّ معظم المنافقين من اليهود، بل اتّخذوهم ليعتزّوا بهم على المؤمنين، وإيماء إلى أنّ المنافقين شعروا بالضعف فطلبوا الاعتزاز، وفي ذلك نهاية التجهيل والذمّ.
والاستفهامُ إنكار وتوبيخ، ولذلك صحّ التفريع عنه بقوله: {فإنّ العزّة لله جميعًا} أي لا عزّة إلاّ به، لأنّ الاعتزاز بغيره باطل.
كما قيل: من اعتزّ بغير الله هَان.
وإن كان المراد بالكافرين اليهود فالاستفهام تهكّم بالفريقين كقول المثل: كالمستغيث من الرمضاء بالنار.
وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية. اهـ.

.قال السمرقندي:

{بَشّرِ المنافقين} وذلك أنه لما نزل قوله تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] فقال المؤمنون هذا لك فما لنا؟ فنزل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلًا كِبِيرًا} [الأحزاب: 47] فقال المنافقون: فما لنا؟ فنزل قوله تعالى: {بَشّرِ المنافقين} {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} في الآخرة. اهـ.